البلد
: تونسالقصة
تنديداتٌ بـ”التوظيف السياسيّ” للمحاكم العسكريّة وارتفاع عدد المدنيّين الماثلين أمامها منذ 25 يوليو 2021
كتبت: نورهان كاهنة
توالت التنديدات الحقوقيّة والسياسيّة في تونس، إثر إصدار محكمة الاستئناف العسكريّة، يوم 20 يناير 2023، أحكامًا بالسّجن لمدّة 14 شهرًا ضدّ سيف الدّين مخلوف، رئيس كتلة ائتلاف الكرامة في البرلمان التونسيّ المنحلّ، و11 شهرًا للنائب مهدي زقروبة مع المنع من ممارسة المحاماة لـ5 سنوات، و7 أشهر لنضال سعودي، و5 أشهر لماهر زيد ومحمّد العفّاس، وذلك في اتهامات ما يُعرف بـ”قضيّة المطار”، التّي تعود حيثيّاتها إلى 15 مارس 2021.
وعبّرت الهيئة الوطنيّة للمحامين عن رفضها التّام والمطلق لمحاكمة المدنيّين أمام القضاء العسكريّ، ووصفتها بأنّها “أداة دائمة للحكومات المتعاقبة حتّى بعد الثّورة للنّيل من الحقوقيّين والنّشطاء”، وذلك في بيان رسمي يوم 21 يناير 2023.
وندّد رضا بالحاج، عضو جبهة الخلاص الوطني، بما وصفه بتوظيف المحكمة العسكريّة في صراعات سياسيّة، مفيدًا بأنّ النّظرة إلى القضاء العسكري على أنّه يقاوم السياسيّين تكوّنت منذ تركيز تلك المحاكم من قبل السّلطات الاستعماريّة الفرنسيّة في أواخر سنة 1890 لمحاكمة المقاومين التونسيّين، وذلك خلال حضوره في برنامج “La matinale”، على إذاعة “شمس أف أم”، يوم 24 يناير 2023.
تتبّع فريق عمل “تفنيد” تلك التصريحات، للتحري عن مجالات تخصّص المحاكم العسكريّة في تونس ورصد مظاهر توظيفاتها السياسيّة، لا سيما في ظلّ تنديدات منظّمات حقوقيّة دوليّة بـ”الارتفاع المقلق” في عدد المدنيّين الذّين يمثلون أمام محاكم عسكريّة، رغم أنّه يُحظر على الحكومات استخدام المحاكم العسكرية لمحاكمة المدنيين باعتبار أنّ الغرض منها هو تحديد الجرائم ذات الطبيعة العسكريّة المحضة التّي يرتكبها أفراد لهم صفات عسكريّة فقط.
ما هي المحكمة العسكريّة؟
المحكمة العسكريّة هي محكمة مختصّة “تنظر في القضايا العسكريّة”، وبالتحديد الجرائم المرتكبة ضدّ مصالح الجيش مباشرة أو في الثكنات أو المؤسسات أو الأماكن التّي يشغلها العسكريّون والقوى المسلّحة، وأيضا الجرائم المرتكبة من قبل جيوش حليفة تقيم في الأراضي التونسية أو ضدّها، بالإضافة إلى جرائم الحقّ العامّ المرتكبة ضدّ العسكريّين سواء أثناء مباشرتهم للخدمة أو بمناسبتها وأيضا المرتكبة من قبلهم، وفق ما ينصُّ عليه الفصلان 1 و5 من الكتاب الأوّل من الأمر العليّ لسنة 1957 المتعلّق بتدوين القانون التونسي للمرافعات والعقوبات العسكريّة.
كما تنظرُ المحكمة العسكريّة في الجنايات والجنح المتعلّقة بالتخلّف والفرار من الخدمة العسكريّة والتمنّع والعصيان وأعمال العنف الواقعة ضدّ الآمرين وتحقيرهم وتحقير الجيش والعلم وتجاوز حدود السّلطة واختلاس متاع الجيش وإخفائه والنهــب والتدميـــر والتخريــب والإتلاف والتشويه قصدًا، فضلًا عن مخالفة التعليمات والامتناع عن المشاركة في المحاكمات العسكريّة والتسليم والخيانة والتجسّس والتجنيد لصالح العدّو، وفقا لما تنصُّ عليه فصول الكتاب الثّاني من ذات المصدر السّابق.
من يُحاكَمُ عسكريّا؟
ويحاكم أمام المحاكم العسكريّة ضبّاط الجيش على اختلاف رتبهم أو القوّة المسلحة أو المنتمين إلى قوة عسكريّة مؤلّفة بطريقة قانونيّة وتلامذة الأكاديميّات والمدارس العسكريّة وضبّاط الصفّ المباشرين والاحتياطيّين ورجال الجيش والضباطّ المتقاعدين والاحتياطيين، فضلًا عن الضباط المتقاعدين أو المعزولين أو المحالين على عدم المباشرة وضباط الصف ورجال الجيش المخرجين والمطرودين أو المسرّحين إذا كان ارتكاب الجريمة تم أثناء وجودهم في الخدمة، وذلك وفق الفصل 8 من ذات المصدر السّابق.
وينضمُّ إليهم، وفق ذات الفصل، الأشخاص الذّين يعتمدُ عليهم الجيش وكلّ القوّات المسلّحة والعسكريّة للقيام بحرفة في زمن الحرب وفي حالة الطوارئ، بالإضافة إلى أسرى الحرب والمدنيّين في حال كانوا فاعلين أصليين أو مشاركين في الجرائم السّابق ذكرها.
ويشير الفصل 5 إلى أنّ المحاكم العسكرية لا تنظرُ في جرائم الحقّ العامّ التي يكون أحد أطرافها غير عسكريّ، بما معناه مدنيّا، باستثناء الحالات المنصوص عليها سابقا، وهو ما يُفسّر الجدل والتنديدات المستمرّة، المحليّة والدوليّة، بتوظيف تلك المحاكم لإدانة مدنيّين في تونس يحملون صفة نوّاب سابقين وصحفيّين ومحامين وناشطين على مواقع الميديا الاجتماعيّة.
المراجع التشريعيّة والترتيبيّة للقضاء العسكري التونسي:
ويستندُ القضاء العسكري في أدائه لمهامه على جملة من المراجع التشريعيّة والترتيبيّة، هي: مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة الصادرة بالأمر العليّ المؤرخ في 10 يناير 1957 والمنقّحة والمتمّمة بالقانون عدد 69 لسنة 2011، والمرسوم عدد 70 لسنة 2011 المتعلّق بتنظيم القضاء العسكري وضبط النّظام الأساسيّ الخاصّ بالقضاة العسكريّين، وأيضًا الأمر عدد 454 لسنة 1987 المتعلّق بتنظيم وزارة الدفاع الوطني، بالإضافة إلى الأمرين عدد 1405 لسنة 1982 وعدد 1554 لسنة 1993 المنقّحين سنة 2001 والمتعلّقين على التّوالي بإحداث محكمة عسكرية دائمة بصفاقس وأخرى بالكاف، وذلك وفق ما نقله الموقع الإلكتروني الرسميّ لوزارة الدّفاع التونسيّة.
الهياكل التّابعة للقضاء العسكري التونسي:
ويُحيلنا الفصل 1 من المجلّة العسكريّة والموقع الرّسمي لوزارة الدّفاع على مختلف الهياكل التّابعة لإدارة القضاء العسكري، وهي:
- المحكمة الابتدائيّة العسكريّة الدّائمة بتونس: أنشئت في أغسطس 1958 بمقتضى الأمر العليّ المؤرّخ في 10 يناير 1957، ومقرّها القاعدة العسكريّة بباب سعدون بالعاصمة تونس.
- المحكمة الابتدائيّة العسكريّة الدّائمة بصفاقس: أنشئت في 30 أكتوبر 1982 بمقتضى الأمر عدد 1405 لسنة 1982.
- المحكمة الابتدائيّة العسكريّة الدّائمة بالكاف: أنشئت في 26 يوليو 1993 بمقتضى الأمر عدد 1554 لسنة 1993.
- محكمة الاستئناف العسكريّة بتونس: أنشئت في 16 سبتمبر 2011.
- دوائر اتّهام عسكريّة.
- دوائر تعقيب عسكريّة.
وبالعودة لتاريخ إنشاء المحاكم العسكريّة التونسيّة، اكتشفنا أنّها تعودُ إلى فترة ما بعد الاستقلال لكن نواة إنشائها كان قبل ذلك.. وهو ما نوضحه في التالي:
المجالس الحربيّة الفرنسيّة نواة القضاء العسكري في تونس:
وينقل الباحث التّونسي خميّس العرفاوي في كتابه “القضاء والسياسة في تونس زمن الاستعمار الفرنسي 1881 – 1956″، أنّ القوّات العسكريّة الفرنسيّة باشرت النّظر في التعدّيات التي يرتكبها تونسيّون ضد الفرنسيّين أو القوّات الفرنسيّة مع بداية “عهد الحماية” عبر مجالسها الحربيّة، وبصفة عامّة فإنّها كانت تلجأ إلى القضاء العسكري لمحاكمة المدنيّين التّونسيّين في ظروف التوتّر والحصار وعندما تعجز مؤسسات الرّدع المدنيّة عن فرض “السّلم”.
ويرصدُ “تفنيد” بالاستناد إلى ذات المصدر جدولة بيانيّة لنشاط المحاكم العسكرية الفرنسيّة بتونس بين يونيو 1943 ويونيو 1945، أي حصيلة سنتين فقط من الاستعمار الفرنسي لتونس الذّي استمرّ طوال 76 عامًا:
لكن ماذا عن حصيلة نشاط المحاكم العسكريّة التونسيّة في جمهوريّة ما بعد الاستقلال؟
نشاط المحاكم العسكريّة في تونس بعد الاستقلال:
في حين تغيبُ البيانات الرسميّة بشأن الحصيلة الإجماليّة لنشاط المحاكم العسكريّة في تونس بعد الاستقلال، وبالتحديد خلال فترة حكم الرئيسين الحبيب بورقيبة “1957 – 1987” وزين العابدين بن عليّ، فإنّ منظّمة “هيومن رايتس ووتش” تقول إنّ الرئيس بن عليّ استغلّ القضاء العسكريّ ووظّفه سياسيّا لا سيما في الفترة الممتدّة بين 1990 و1992، وذلك في إطار حملة قويّة شنّها على حركة النهضة التونسيّة، حيثُ تمّت إدانة ما يزيدُ عن 265 شخصًا من أعضائها والمتعاطفين معها في عام 1992 بتهمة التخطيط لقلب نظام الحكم والانضمام إلى جمعية غير مرخص لها، وفق تقرير للمنظّمة نُشر يوم 5 نوفمبر 2008.
وتُفيد المنظّمة في ذات التقرير بأنّ بن عليّ وظّف القضاء العسكريّ لإدانة ما يزيدُ عن 23 شخصًا على صلة باحتجاجات “الحوض المنجمي” بمدينة قفصة في عام 2008، مشدّدة على أنّه بالرّغم من سلسلة الإفراجات المشروطة التّي تقوم بها السّلطة فإن المئات من التونسيين يبقون رهن الاحتجاز جرّاء اتهامات سياسيّة بعد إدانتهم في محاكمات تعوزها الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة.
هل كان للانتقال السياسي في ثورة 2011 صدى على نشاط المحاكم العسكريّة؟
قالت منظّمة العفو الدوليّة إنّ منظمات حقوق الإنسان وثّقت ما لا يقلُّ عن 6 حالات لمدنيّين مثلوا أمام القضاء العسكري بين عامي 2011 و2018، وذلك في تقريرها الصّادر بتاريخ 10 نوفمبر 2021، وهو ما يتوافقُ مع ما أدلى به المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة في تقريره الصّادر في 18 نوفمبر 2021.
وتزايدت المحاكمات العسكريّة في تونس مع حلّ البرلمان بعد تجميده ضمن سلسلة “الإجراءات الاستثنائيّة” التّي اتّخذها الرئيس قيس سعيّد يوم 25 يوليو 2021، حيثُ أدان القضاء العسكريُّ ما لا يقلُّ عن 11 مدنيًا في الفترة الممتدّة بين يوليو ونوفمبر 2021، من بينهم نوّاب سابقون على غرار ياسين العيّاري وعبد اللّطيف العلوي والصحفيّ عامر عيّاد والمحامي مهدي زقروبة وسليم الجبالي، النّاشط على منصّات الميديا الاجتماعيّة، وفق المصدر السّابق.
تكشفُ البيانات الرسميّة تزايد توظيف القضاء العسكريّ في التحقيق ضد مدنيّين بعد 25 يوليو 2021.. رّغم أنّ مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة نصّت في فصلها الـ5 على أنّ ذلك لا يحدث إلّا في حالات استثنائيّة
المصادر
بيان الهيئة الوطنيّة للمحامين: | تصفح |
تدوينة حركة النهضة: | تصفح |
حوار رضا بالحاج: | تصفح |
تقرير العفو الدولية: | تصفح |
تقرير هيومن رايتس ووتش: | تصفح |
المجلة العسكريّة: | تصفح |
الموقع الرسمي لوزارة الدفاع: | تصفح |
تقرير هيومن رايتس ووتش (2008): | تصفح |
تقرير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعيّة: | تصفح |
تقرير هيومن رايتس ووتش: | تصفح |
تقرير العفو الدولية: | تصفح |
خبر مثول شيماء عيسى أمام القضاء العسكري: | تصفح |
التعليقات حول هذا المقال