شفرة العبور

تحقيق مدفوع بالبيانات يكشف خطوط سير الفساد بقناة السويس والمتورطين فيه

لقد عشت على متن السفينة وأبحرت في المحيط لمدة 62 عامًا، يؤسفني أن أقول إن قناة السويس هي أكثر الأماكن فسادًا التي أعرفها على وجه الأرض، من موظفي القياس بالقناة، إلى المرشدين الملاحيين، إلى الشرطة الفاسدة في بورسعيد.. كل مكان بالعالم به الأمناء وغير الأمناء، إلا قناة السويس فإنها مليئة بالفساد

Gary Goodlander

قبطان بحري أمريكي

لم يكن Gary Goodlander هو الوحيد الذي تجاوب مع التقصي الذي قام به فريق عملنا لتوثيق وقائع الفساد التي تعرض لها البحارة خلال الملاحة بقناة السويس، إذ حصلنا على 5 شهادات حية لبحارة من جنسيات، أمريكية، ويونانية، ومصرية، حصلنا خلالها على تفاصيل كاملة لمرور خمس سفن بأوقات مختلفة بالقناة، وثقنا فيها مسار المرور وهويات السفن وتفاصيل تقديمها لرشاوى للمرور بالقناة.
تلك الروايات كانت مناقضة تمامًا لرواية هيئة قناة السويس خلال ردها على تقرير يتهم قناة السويس بأنها الممر الملاحي الأول على مستوى العالم في مؤشر الفساد، وهو ما كشف أمام فريق عملنا تحليل كامل مدعوم بالبيانات لبيئة الفساد بالقناة والمسؤولين عنها.

كيف بدأت القصة

بدأت القصة بتقرير مفصل أصدرته شبكة مكافحة الفساد البحري (MACN) عن وقائع الفساد في قطاع النقل البحري، وقال التقرير أن قناة السويس تصدرت قائمة “أكثر الممرات الملاحية فسادًا وطلبًا للرشوة في العالم“.

وشبكة مكافحة الفساد البحري، هي منظمة بحرية عالمية، توفر منتدى للشركات المساهمة يهدف للقضاء على الممارسات الفاسدة في الصناعة البحرية، وتتكون من الشركات المالكة للسفن وغيرها في الصناعة البحرية بما في ذلك أصحاب البضائع ومقدمي الخدمات البحرية.

وذكر تقرير شبكة مكافحة الفساد البحري، أنه في قائمة العشر موانئ الأولى في الفساد حول العالم كان لمصر نصيب الأسد بـ3 موانئ، هى قناة السويس وميناء الإسكندرية وميناء بورسعيد، في المراكز الأول والثالث والتاسع على الترتيب.

وأضاف التقرير، أن عدد الحوادث التي تم الإبلاغ عنها خلال 10 سنوات في قناة السويس بلغ 1795، والاسكندرية 1001 حادث وبورسعيد 577 حادث، والتي يبلغ عددها مجتمعة 3373 حادث من 45000 حادث تم الإبلاغ عنها في 1195 ميناء حول العالم، ما يعني أن الموانئ المصرية الثلاثة سجلت نحو 7.5% من إجمالي الحالات التي تم الإبلاغ عنها.

وهو ما دعا هيئة قناة السويس، في 28 فبراير 2022، إلى إصدار بيان تنفي فيه صحة الإدعاءات الخاصة بتجاوزات بعض العاملين بها، وحصلت “تفنيد” على البيان حين صدوره وذلك قبل أن تُقيد الهيئة الوصول إلى البيان على موقعها الرسمي.

ولم تكن هذه هى المرة الأولى التي تنفي فيها سلطات القناة وقائع الفساد، إذ أصدرت الهيئة بيانًا صحفيًا في مايو 2017، ردًا على ما تم تداوله على بعض مواقع التواصل الاجتماعي بشأن إدعاء أحد الضباط البحريين العاملين على إحدى السفن التي عبرت القناة بتاريخ 7 مايو 2017، بتعرض السفينة لمضايقات من قبل أحد مرشدي الهيئة، ونفت الهيئة في بيانها ما وصفته بالشائعات جملة وتفصيلاً.

إلا أن قضية الفساد بقناة السويس قد أثيرت بتحقيقات أجنبيه وصفتها فيها بـ ”قناة المارلبورو“، كما سرد بحارة من جنسيات مختلفة شهادات غير تفصيلية عن تجاربهم مع الرشاوى بقناة السويس عبر منشورات على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك“ وهو ما دفعنا لبدء التحقيق للتأكد من الروايات.

كيف تتبعنا خيوط الفساد؟

كان على فريق عملنا البدء في مهمة شاقة للكشف عن حقيقة قصص الفساد المتهمة بها هيئة قناة السويس.
إذ تمتنع شركات الملاحة وطواقم العمل عن إعلان أسمائها أو الإدلاء بشهادات إعلامية خوفًا من تعرضهم لمزيد من المضايقات خلال الرحلات المقبلة لهم بالقناة أو تلك الموانئ.
وهو ما دفعنا إلى البحث في عدة اتجاهات لمحاولة الوصول إلى أدلة حقيقية، فعملنا على تتبع المجموعات الخاصة للبحارة والمرشدين الملاحيين بوسائل التواصل الاجتماعي للبحث عن شهادات حية للمرور بقناة السويس.
كما عملنا على مراسلة المنظمات والشبكات المهتمة بتتبع الفساد البحري للتقصي حول حقيقة البلاغات المقدمة حول القناة.
فيما عملنا على تتبع حركة الملاحة بالقناة عبر عدة برامج متصلة بالأقمار الصناعية أبرزها myshiptracking، لمقارنة شهادات المُبلغين عن الفساد بالقناة بواقع حركة الملاحة اليومية، وتحليل بيئة ومحطات الفساد بها.
كما عملنا على التواصل مع هيئة قناة السويس لمواجهتها بما حصلنا عليه من شهادات حية وبلاغات توثق وقائع الفساد التي تمت داخل القناة، إلا أن إدارة القناة لم ترد على تواصلاتنا عبر البريد الإلكتروني والمنصات الرسمية للقناة. 

كيف تعمل منظومة الفساد في القناة؟

كل البحارة يعلمون الفساد في قناة السويس، العاملون بالقناة دائما يطلبون السجائر، وفي حالة الرفض يقوم بعضهم بعمل مشاكل كبيرة

بهذه الكلمات عبر القبطان البحري اليوناني G.K، في شهادته الخاصة لفريق عملنا، عن ما واجهه وزملائه بالطاقم خلال مرورهم بقناة السويس، إلا أنه طلب عدم إعلان اسمه والاكتفاء بالحروف الأولى.
التخوف من إعلان أسماء شهود العيان أو بيانات السفن والرحلات التي وثقناها هي السمة المشتركة بين أغلب البحارة الذين قدموا شهاداتهم لفريق عملنا، خوفًا من تعرضهم أو الشركات التي يعملون بها للمضايقات خلال عبورهم للقناة في المرات القادمة، ما يعني أن تلك التخوفات ليست وليدة الأوهام أو الادعاءات غير الحقيقية.
تقرير شبكة مكافحة الفساد البحري قدمت تحليلًا لبيئة الفساد داخل قناة السويس، أكدت خلاله أن المتورطين في شبكة الفساد بقناة السويس هم: 

Made with Flourish

كما أكد التقرير أن مطالب الفساد تتمثل في:

كان يجب على فريق عملنا التحقق من تحليل بيئة الفساد بالقناة والتي تنكرها السلطات الرسمية، لذا طرحنا سؤالًا على شهود العيان الذين توصلنا إليهم، وهو: كيف تعمل منظومة الفساد بالقناة؟
كان لابد في البداية من فهم طبيعة حركة الملاحة داخل قناة السويس، فاستعنا بعدد من الخبراء الملاحيين، كما قمنا برصد حركة الملاحة في القناة عن طريق عدد من مواقع تتبع حركة الملاحة البحرية على مدار عدة أيام.
تتبعنا خلالها عملية مرور السفن ومدة العبور وما إذا تمت أي حركة غير اعتيادية خلال عملية المرور مع أي من السفن، ومقارنة روايات شهود العيان وأصحاب البلاغات مع منظومة الملاحة اليومية بالقناة.
تشمل منظومة الملاحة بقناة السويس خمس مناطق أساسية وهي: منطقة الانتظار بالبحر المتوسط، وميناء الدخول، ومنطقة التبديل ببحيرة التمساح، وميناء الخروج، ومنطقة الانتظار بالبحر الأحمر.
ويتكون نظام الملاحة داخل قناة السويس من قافلتين، قافلة الشمال من بورسعيد في اتجاه البحر الأحمر وتبدأ من الساعة 03:30، وقافلة الجنوب من السويس في اتجاه البحر المتوسط وتبدأ من الساعة 04:00، ويصل متوسط مدة عبور السفينة للمجرى الملاحي لقناة السويس نحو 9 ساعات ونصف.

وبحسب البحار المصري م. س، أحد البحارة الذين أدلوا بشهادات حية لـ ”تفنيد“ حول تعرض طاقمه للابتزاز خلال المرور بالقناة، فإن المرشدين التابعين لهيئة قناة السويس هم من يديرون عملية الملاحة من أول منطقة الانتظار وحتى نقطة الوصول في الطرف الآخر من القناة”.

ويُصاحب كل سفينة تعبر القناة 4 مرشدين لإرشادها، الأول يرشد السفينة من منطقة الانتظار بالبحر إلى ميناء الدخول، والثانى يرشدها من ميناء الدخول إلى بحيرة التمساح بالإسماعيلية “منتصف القناة”، والثالث يرشدها من الإسماعيلية إلى الطرف الآخر للقناة “ميناء الخروج”، أما الرابع فيرشد السفينة من ميناء الخروج إلى منارة بوغاز الخروج.

وبحسب الشهادات التي حصلت ”تفنيد“ عليها، فقد تمكن فريق عملنا من تحليل بيئة الفساد بالقناة، بالاستعانة بخبراء في الملاحة، وهو ما أثبت عددًا من الادعاءات التي قدمتها شبكة مكافحة الفساد البحري، ومنها:

وبحسب الشهادات التي حصلنا عليها أو ما تم ذكره في تقرير شبكة مكافحة الفساد البحري، فإن معظم الرشاوى والتسهيلات التي يتم طلبها من السفن العابرة للقناة، تتمثل في السجائر بعدد حالات بلغ 1626 حالة من 1795 بلاغ تم تقديمهم ضد القناة خلال الـ10 سنوات الماضية، ويليها مطالب متفرقة وكذلك المبالغ المالية الكبيرة والصغيرة ومشروبات غازية، إضافة إلى رسوم غير مبررة.
وفيما يخص الرسوم غير المبررة، يقول البحار المصري م.س: “القناة بتعرف تاخد منك فلوس وبيطلبوا حاجات كتير جدًا أحيانًا ملهاش لزوم، 

مثلًا بيطلبوا منك أنك تحط حاجة اسمها Search Light حتى لو هتعبر القناة بالنهار ومش هتستخدمه“.
وتتوزع مسئوليات الفساد داخل قناة السويس وفقا للتقرير على العديد من الجهات داخل القناة، فتبدأ المنظومة من قمة الهرم الإداري وهى سلطات القناة إلى عمال الكهرباء وعمال التحميل والتفريغ، وكان للمرشدين نصيب الأسد إذ سجل التقرير تورط المرشدين في 565 حالة من أصل 1795 بلاغ، يليهم عمال القياس والسلطات الصحية ثم سلطات أمن القناة والجمارك.

لماذا تقبل السفن الخضوع للفساد بالقناة؟

”احنا أصبحنا لا نسميه فساد لأنه أصبح عُرف، وأصبح الطبيعي عند مرور القناة نكون مجهزين المارلبورو، والسفن الكبيرة بتكون مجهزة الخمور والسجائر بجميع أنواعها، أما السفن المصرية فعادة بنكون مجهزين للمرشد شنطة كويسة فيها مما لذ وطاب، وتكفيه أسبوع هو وأسرته عشان يكون مبسوط“

هكذا وصف البحار م.س روتين الرشاوى الذي يلتزمون به خلال المرور بالقناة، ويضيف:  ” تناوب المرشدين خلال عملية الملاحة بالقناة يعني خضوع السفينة وطاقمها للمساومة والابتزاز أكثر من مرة وهو ما يجعل من الخضوع لهذه المساومة الحل الأسرع والأنجز والخيار الأقل ضررا على السفينة أو طاقمها، لأنه في حالة عدم القبول بدفع تلك التسهيلات أو الرشوة فإن المرشد لا يستطيع إيقاف العملية ولكن من الممكن أن يقوم بتأخير السفينة أو معاملة ربان السفينة وطاقمها بشكل غير لائق“.
وبحسب تقرير MACN فإن العواقب – الضمنية أو المعلنة – لرفض دفع الرشوة في جميع البلاغات التي تم تقديمها خلال الـ10 أعوام الماضية، تتمثل في تأخير السفينة أو العنف الجسدي أو سلامة حيازة الطاقم وكذلك سلامة السفينة أو التهديد بالغرامات لعدم الامتثال المزعوم وأيضًا التهديد بالسجن. فيما تمثلت معظم العواقب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في تأخير السفينة بنسبة بلغت 84.4% وتهديد سلامة السفينة بنسبة 6.4% من إجمالي الحالات التي تم الإبلاغ عنها.

أين يكمن مصدر الفساد؟

تحليل بيئة الفساد بقناة السويس وفقًا لشهود العيان والبلاغات المُقدمة أكد أن مراحل ومسؤوليات الفساد موزعة بين موظفين بتخصصات مختلفة، وبين سلطات القناة بشكل مباشر.
إلا أن البحث في أرشيف المحاكم المصرية حول قضايا الفساد المتعلقة بالموانئ كشف أن سلطات الموانئ تورطت عدة مرات في قضايا فساد كبرى، تجعلها مسؤولة عن الفساد المنتشر بين الموظفين.

2014.. القبض على رئيس هيئة موانئ بور سعيد متلبسًا بالرشوة

ألقت الرقابة الإدارية، ببورسعيد، القبض على اللواء أحمد نجيب شرف، رئيس هيئة موانئ بورسعيد، متلبسًا في قضيه رشوة لتسهيل تصريح إحدى الشركات بشكل مخالف للقانون.
وخلال التحقيقات كشف رئيس الهيئة تورط كل من محمد أحمد أبو العينين جمعة، المستشار الهندسي للهيئة، ومحمد التابعي قوطة، مدير إدارة الهندسة المدنية بالهيئة، في قضية الرشوة، قبل أن يتم الحكم عليهم بالسجن المشدد 5 سنوات ورد مبالغ الرشوة التي تقاضوها.

2018.. الحكم على مسؤولين بميناء الإسكندرية بالسجن 3 سنوات بتهمة الرشوة

أيدت محكمة النقض الحكم بالسجن 3 سنوات، والعزل من الوظيفة، وغرامة 5 آلاف جنيه، بالقضية رقم 164 لسنة 2018 جنايات ميناء الإسكندرية، لكل من مدير عام اختبارات الجودة  الصناعية بجمارك الإسكندرية، ومدير إدارة الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات بجمارك الإسكندرية، وآخرين بتهمة تقاضي رشاوى مالية وعينية لتسهيل مرور شحنات غير مطابقة للشروط.

2016.. القبض على مدير إدارة مكافحة التهرب الجمركى بجمارك الإسكندرية متلبسًا بالرشوة

ألقت هيئة الرقابة الإدارية القبض على مدير إدارة مكافحة التهرب الجمركى بجمارك ميناء الإسكندرية متلبسا أثناء تقاضيه مبلغ 250 ألف جنيه كرشوة من صاحب إحدى الشركات مقابل تسهيله إجراءات الإفراج الجمركي عن إحدى الرسائل الخاصة بها.

2020.. الحكم بالسجن 10 سنوات على رئيس مصلحة الجمارك بميناء بور سعيد

أيدت محكمة النقض، حكم محكمة الجنايات بمعاقبة رئيس مصلحة الجمارك بميناء بور سعيد جمال عبد العظيم، بالسجن المشدد لمدة 10 سنوات وتغريمه 768 ألف جنيه وعزله من منصبه، لإدانته فى قضية رشوة.

هل تكافح هيئة قناة السويس الفساد؟

روايات شهود العيان التي حصلنا عليها، لبحارة من جنسيات مختلفة، بينهم مصريون، تؤكد صحة ادعاءات تقرير شبكة مكافحة الفساد البحري بتفشي الفساد بقناة السويس، وتناقض مع نفي هيئة القناة وجود فساد بها.
تلك الوقائع التي قمنا بتوثيقها حول الفساد تعد مخالفة صريحة للمادة 14 من القرار الجمهوري رقم 1975/30 والذي ينص على: لا يجوز أن تتخذ الهيئة أي إجراء يتعارض مع أحكام اتفاقية 29 أكتوبر عام 1888 الخاصة بضمان حرية استعمال قناة السويس البحرية. ولا يجوز للهيئة أن تمنح أية سفينة أو أي شخص طبيعياً كان أو اعتبارياً أية فوائد أو ميزات لا تمنح لغيرها من السفن أو الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين في نفس الأحوال. ولا يجوز لها أن تفرق في المعاملة أو تميز بين عملائها أو تحرم أو تفضل أحداً منهم على غيره.
ورغم إصدار الفريق أسامة ربيع، رئيس هيئة قناة السويس، قرارًا بتشكيل اللجنة الدائمة للشفافية والنزاهة ومكافحة الفساد بالهيئة، إلا أن القرار لا يمكن اعتباره توجهًا حقيقيًا لمكافحة الفساد، إذ تتشكل اللجنة برئاسة رئيس المتابعة والرقابة بالهيئة، وعضوية ممثلين من جميع إدارات الهيئة، وهم المسؤولون المتهمون بالأساس بإدارة منظومة الفساد بالهيئة.

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

أضف قائمة تشغيل جديدة

إشترك الآن ليصلكم جديد الأخبار

إشترك الآن في القائمة البريدية

إحصل علي جديد الأخبار